تضامن أوروبا مع فلسطين- مكاسب استراتيجية رغم التضحيات

المؤلف: ماجد الزير08.12.2025
تضامن أوروبا مع فلسطين- مكاسب استراتيجية رغم التضحيات

على الرغم من الأهوال والتضحيات الجسام التي تكبدها الشعب الفلسطيني الأبيّ في شهر مايو/أيار من عام 2021 في مختلف أرجاء الأرض المحتلة، لا سيما في غزة الصامدة، التي رزحت تحت وطأة عدوان وحشي استهدف الإنسان والبنيان وكل مناحي الحياة، وتعدى على بناها التحتية الحيوية. هذا الاعتداء الآثم، الرابع من نوعه خلال 15 عامًا من حصار جائر، فاقم المعاناة، وعمق الجراح، وزاد من وطأة الألم. ومع ذلك، أسهمت عوامل جمة في تحويل هذه المحنة إلى مكاسب إستراتيجية جوهرية للقضية الفلسطينية، وللشعب الفلسطيني، ولمستقبله المتطلع إلى التحرر من نير الاحتلال، وذلك في شتى المجالات والمستويات المتنوعة، وعلى الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية، الأمر الذي أذهل صانعي القرار من قادة الكيان الصهيوني الغاصب، الذين لم يتوقعوا مثل هذا التحول بأي حال من الأحوال في تخطيطهم الحربي والسياسي، على الرغم مما يمتلكونه من أجهزة رصد وترقب إستراتيجي متطورة، وإلا لما أقدموا على فعلتهم النكراء بحق القدس الشريف ودرتها المسجد الأقصى المبارك، وحي الشيخ جراح الصامد، وغزة الأبية، وعموم فلسطين.

لم تكن أوروبا، بحراكها التضامني المتسع والمتنامي في دولها المختلفة، استثناءً في مظاهر تعكس تحولات مهمة وحيوية وفاعلة، وقد تجلى ذلك بوضوح في التفاعل مع أحداث ربيع فلسطين وسياسات الاحتلال المخالفة للقانون الدولي. وعند الحديث عن هذا الموضوع، فإننا نتطرق إلى الفعاليات والأنشطة على المستوى الشعبي، والأصوات التي تعلو داعمة في أروقة السياسة والقانون، وكذلك الأوساط النقابية والأكاديمية والثقافية ومجالات أخرى، مما يبشر بمشهد مستقبلي زاهر، وداعم، وفاعل للقضية الفلسطينية وعدالتها بمعايير راسخة. ويأتي هذا التوجه جنبًا إلى جنب مع اتساع رقعة القارة جغرافيا، وتنوع ثقافات شعوبها، والاختلافات النوعية بينها في السياسة المحلية والدولية. وفي هذا السياق، سوف تستعرض السطور التالية بتفصيل وشرح مستفيض هذا الموضوع، انطلاقا من واقع المعايشة الميدانية واطلاع الكاتب على عموم القارة.

إن مشهد التفاعل الشعبي والميداني الفوري والمستمر والمتواصل والمثابر في عموم القارة، والذي وصلت رسالته إلى الشعب الفلسطيني في الداخل لتعزيز صموده، ووصلت رسائله إلى جميع المعنيين باتخاذ القرار في العواصم الأوروبية، له دلالات عميقة.

نؤكد حقيقة -بكل تجرد وموضوعية- أن لدولة الاحتلال ونفوذها في القارة الأوروبية جذورًا عميقة ممتدة في التاريخ، وهي حاضرة بقوة من خلال دعمها في كافة مناحي الحياة هناك، فهي صنيعة هذه الدول، وشريان الحياة ممتد لها بشكل مستمر منذ قيامها قبل ما يزيد على سبعة عقود، وهو أحد أهم أسباب قوتها ونفوذها.

وعندما نتحدث ونبرز ونرصد حراك دعم القضية الفلسطينية، نجد أنه بالمقابل جديد نسبيًا، ولكنه متنامٍ ومتصاعد في وتيرة أدائه من فترة إلى أخرى، ويحمل في طياته ميزات مهمة، ويكتسب عناصر قوة باستمرار تؤثر فيه بشكل إيجابي، ومن بين هذه العناصر ما نعيشه الآن من أجواء دعم ومساندة وتضامن خلال الاعتداءات الأخيرة.

وفي مقارنة سريعة لتفاعل الشارع الأوروبي المتضامن بشقه الفلسطيني والعربي والإسلامي، والأحرار المتضامنين، خلال الحروب الأربع على غزة إبان فترة الحصار الممتد، سواء في شتاء 2008 وخريف 2012 وصيف 2014 وأخيرًا ربيع 2021، نجد عناوين جديدة ومهمة قد برزت خلال أسابيع العدوان الأخيرة. وإذا ما تم استثمارها سريعًا وبشكل عملي، فمن الممكن أن تحدث فرقًا جوهريًا في مناحٍ عديدة في أوروبا، بل سيمتد أثرها إلى الساحات الأخرى لصالح دعم القضية، وفي مقدمتها المجال السياسي والتأثير في صناعة القرار على المستوى القاري وفي الجانب القطري على حد سواء.

لقد كان مشهد التفاعل الشعبي والميداني الفوري والمستمر والدائم والمثابر في عموم القارة، والذي وصلت رسالته إلى الشعب الفلسطيني في الداخل لتعزيز صموده الأسطوري، ووصلت رسائله إلى جميع المعنيين باتخاذ القرار في العواصم الأوروبية، مشهدًا مؤثرًا ومبشرًا. وخلال أحداث فلسطين المتسارعة، التي بدأت بمحاولة إخلاء حي الشيخ جراح من سكانه الأصليين، واقتحام المسجد الأقصى المبارك وانتهاك حرمته، وبلغت ذروتها بالعدوان الغاشم على قطاع غزة الصامد، والذي استمر لمدة أحد عشر يومًا، فاقت الاحتجاجات والاعتصامات الألف فعالية على الحد الأدنى في عموم الدول الأوروبية ومدنها، ويأتي هذا على الرغم من منع التظاهر في باريس الفرنسية والنمسا لأسباب غير مبررة؛ مما يعد انحيازًا سافرًا لدولة الاحتلال، وكذلك في السويد بسبب إجراءات جائحة كورونا المفروضة لمنع التجمعات العامة.

ومما ميّز هذا التفاعل أنه كان حاشدًا وممتدًا وبشكل يومي طوال الأحداث وبدون انقطاع، وبلغ ذروته في تنظيم أكثر من مظاهرة في المدينة الواحدة في اليوم الواحد. وقد تنوعت المظاهرات في أشكالها بين المسيرات الراجلة وسط الشوارع، والوقفات الاحتجاجية أمام أماكن سياسية مهمة وذات دلالة رمزية، كسفارات العدو الصهيوني، ومكاتب رئاسة الوزارات، ووزارات الخارجية، وسفارات الدول النافذة كالسفارة الأميركية في العواصم الأوروبية. ونذكر في هذا السياق مظاهرة لندن الجماهيرية النوعية، وكذلك مظاهرات عواصم القارة في برلين، وكوبنهاغن، وبروكسل، وأمستردام، ودبلن، وروما، وفيينا، وكذا مدن رئيسة كان لها حضور بارز في المظاهرات الحاشدة مثل مانشستر، وميلانو، وروتردام، وفرانكفورت. ونشير أيضًا إلى الحضور المتقدم والمتفوق لشبكة التواصل والتنسيق في المدن الفرنسية -باستثناء باريس- بشكل وصل إلى تنظيم العشرات من المظاهرات في اليوم الواحد، ومدن سويسرا الرئيسة، ونذكر أيضًا اعتصام الأكفان في العاصمة الدانماركية (كوبنهاغن)، التي ترمز للضحايا الفلسطينيين من الأطفال بصورهم وأسمائهم وأعمارهم.

ومن الأمور الجديدة والمهمة في الأحداث الحالية، تعزيز الوحدة الفلسطينية بين مكونات المؤسسات العاملة في القارة بشكل لافت في غالبيتها الواضحة، والخروج في المظاهرات بشكل موحد، وبروز مؤسسات واعدة في أدائها في السياق ذاته، كمبادرة فلسطينيي أوروبا للعمل الوطني والالتحام المؤسساتي المحلي في الأقطار، وفي إدارة مشهد الإسناد أثناء العدوان الأخير في عموم الأقطار وبدون استثناء.

ولا بد من الإشارة إلى عودة القضية الفلسطينية إلى مكانتها المرموقة في الدعم لدى الأقليات العربية والإسلامية في أوروبا، بعد تراجعها في السنوات الماضية لأسباب عديدة، من بينها الاهتمام بالقضايا المحلية التي تعمّق الجرح النازف فيها كاليمن وسوريا وليبيا. لكن، تجسدت حقيقة مدى المكانة الراسخة للقدس والمسجد الأقصى وفلسطين في الوجدان الجمعي العربي والإسلامي، وانعكس هذا في مشاهد نادرة في اجتماع الفرقاء، بل والمتنازعين والمتناحرين محليًا في الدول المختلفة، حيث اصطفوا صفًا واحدًا متراصًا إسنادًا للقضية الفلسطينية، وهبة المقدسيين، ومقاومة الغزيين، وانتفاضة شعبنا في الضفة وأراضي الـ48.

وقد كان لأئمة المساجد والعلماء دور بارز في دعم القضية الفلسطينية بما يتلاءم مع القوانين الأوروبية. وظهر التنافس المحمود بين مكونات الجاليات، والحرص على إبراز الهوية المحلية في الإسناد، فكانت أعلام الدول المختلفة ترفرف جنبًا إلى جنب مع العلم الفلسطيني، مما أعطى زخمًا وقوة للتظاهرات.

ويعتبر انخراط عنصر الشباب، وتصدره للمشهد بمختلف أصوله الفلسطينية والعربية والإسلامية والأوروبية، بشكل مكثف ومتنوع ومستمر وإبداعي، علامة فارقة في التفاعل مع الأحداث خلال الأسابيع الماضية. ومع امتلاك الشباب لقوة اللغات الأجنبية، والتحصيل العلمي الرفيع، ومعرفتهم بالتكنولوجيا الحديثة، خاصة منصات التواصل الاجتماعي، وامتلاكهم لمهارات التعامل معها، والتنويع في استخدامها بمستويات متقدمة، وانخراطهم بشكل معقول في النسيج الثقافي والاجتماعي ومناحي الحياة المختلفة، شكل كل ذلك علامة فارقة في التأثير وحضور المظلمة والرواية والسردية الفلسطينية.

فقد كان المكون الشبابي جزءًا مهمًا ومحوريًا، عددًا وطبيعة ومساهمة، في المظاهرات والاعتصامات ومظاهر الدعم المتنوعة، التي عمت أرجاء القارة شرقها وغربها، وبشكل فيه حيوية وجرأة سواء كان ذلك بالشعارات والكلمات، وقيادة المشهد، وحشد الجماهير المحتشدة.

ومن الأمثلة العديدة والمتنوعة، قيام الشباب في مدينة آرهوس الدانماركية بتأليف كلمات أغنية باللغة المحلية بعنوان "الحرية لفلسطين"، وتلحينها، واستخدامها في المظاهرات، وأدائها من قبل المغني والملحن المشهور راسموس بوس هناك.

ومثال آخر، استخدام شباب فرنسي لمنصات ألعاب الفيديو المنتشرة بينهم بكثرة، لجمع التبرعات لفلسطين في حملة مرخصة قانونًا تحت عنوان "حملة 72 ساعة من أجل غزة"، وتمكنوا من جمع مبلغ 90 ألف يورو في هذه الحملة.

ومن العلامات الفارقة والجديدة أيضًا، سرعة التفاعل مع مفردات القانون، والتنسيق الفوري لتقديم قضية ضد دولة الاحتلال وقادتها ومحاسبتهم على جرائمهم، وذلك لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي الهولندية، بقيادة مؤسسة "العدالة واحد" الفرنسية.

وفي المجال السياسي، نلحظ الحضور السريع، خاصة من جيل الشباب، للضغط على صانعي القرار السياسي على المستوى الرسمي والبرلمانات، والتواصل الفوري معهم، ومطالبتهم باتخاذ قرارات إدانة بحق الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.

ونستطيع الجزم بأن ما انعكس من مواقف السياسيين، ومواقف الدول الأوروبية، من مواقف جديدة وغير مسبوقة، يعود جزء مهم منها إلى هذا التفاعل المثمر من الاعتصامات والتظاهرات والمجموعات الضاغطة. ونذكر مواقف بارزة من سياسيين على امتداد القارة بدون استثناء، والتي لو تم استثمارها على الوجه الأمثل، ستصنع فرقًا حقيقيًا لصالح دعم القضية الفلسطينية، والوقوف في وجه دولة الاحتلال الغاشم.

ولعل مؤشر التصويت للدول الأوروبية، التي لديها عضوية في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذي انعقد يوم الخميس الموافق 27 مايو/أيار المنصرم في جنيف، للتداول في قرار تشكيل لجنة تحقيق في الاعتداء الصهيوني الأخير، قد أظهر امتناع كل من هولندا، وإيطاليا، وفرنسا، والدانمارك، وبولندا، وأوكرانيا عن التصويت، مما يمكن اعتباره تعبيرًا عن عدم ارتياح من قبل تلك الدول، ورفضًا لسياسة العدوان الإسرائيلية.

ونشير أيضًا إلى المواقف المتقدمة في البرلمان الأيرلندي والدانماركي، والحضور الميداني في المظاهرات لسياسيين بارزين على امتداد القارة، والتصريحات النوعية المتعددة لسياسيين في السويد، والنمسا، وفرنسا، وبريطانيا، وأيرلندا، وهولندا، والدانمارك.

وفي الجانب الإعلامي، نولي اهتمامًا خاصًا بعدة أبعاد نعتبرها مهمة وإستراتيجية، ويأتي في مقدمتها الإعلام الجديد وامتداداته الشعبية الواسعة، والبعد الفردي الإبداعي فيه، خاصة عند جيل الشباب. إضافة إلى ذلك، بروز مؤسسات إعلامية متخصصة بقضايا الشرق الأوسط، وخاصة بالقضية الفلسطينية، ومنصات إعلامية وقنوات فضائية سواء رسمية أو خاصة وباللغات الأجنبية، اهتمت بالحراك الممتد ورصدته، مما جعل أثره يمتد ويتسع في أوساط الرأي العام الأوروبي.

كل ما تقدم قد تأثر بعوامل جمة كانت سببًا في هذا التفاعل، وغذت استمراره وتطوره. وأهم هذه العوامل، في رأينا، هو نقل الأحداث لحظة وقوعها عبر وسائل الإعلام الفضائية، والتنافس المحموم بين تلك الوسائل الإعلامية وبلغات العالم المختلفة. وتتجلى أهمية هذا الأمر في نقلها لوحشية دولة الاحتلال وعدم اكتراثها بالعواقب، كما نقلت الكاميرات حجم الدمار الهائل الذي لحق بقطاع غزة. ونذكر أيضًا نقل مظاهر مقاومة الشعب الفلسطيني الأعزل، ووحدته العظيمة في كل أماكن وجوده. ونقل صورة المسجد الأقصى المبارك والأحداث التي جرت فيه، بما يحمله من معاني القداسة عند جموع المسلمين في جميع أنحاء العالم، ومن بينهم الملايين في أوروبا. وهنا، كان لنقل القصص الإنسانية، والمآسي التي حلت بالشعب الفلسطيني، ومظاهر التماسك والإرادة الصلبة لشعبنا الفلسطيني، والإصرار على التشبث بالأرض، أبلغ الأثر في تعاطف الجماهير الأوروبية مع القضية الفلسطينية. وينطبق هذا أيضًا على حي الشيخ جراح الصامد، الذي تحول إلى أيقونة للأحياء في العالم، ورمزًا للتمسك بالحقوق المشروعة.

ونشير إلى حادثة قصف برج الجلاء، الذي كان يضم مكاتب صحفية عالمية مرموقة، كقناة الجزيرة وشبكة "أسوشيتد برس"، وكيف ساهم هذا العمل الهمجي في استعداء الصحافة العالمية على دولة الاحتلال. ونشير أيضًا إلى مظاهر الوحدة الوطنية الفلسطينية، سواء في الميدان أو على المستوى السياسي في الداخل والخارج، وانعكاس ذلك إيجابًا على الشارع الداعم للقضية في أوروبا.

ونشير كذلك إلى تراكم الجهد التضامني عبر السنين، ووجود بنى تحتية متينة لشبكة المؤسسات التي ربطت نفسها بفلسطين، والتنسيق المحكم بينها على المستويين القاري والمحلي. وكان لتزامن الأحداث المؤسفة مع إحياء ذكرى النكبة الأليمة، وهي الأهم في الروزنامة الوطنية الفلسطينية، أثر كبير في تعاظم المسيرات والاعتصامات وتغذية زخمها. ذلك أن المؤسسات الداعمة للقضية تحضر لأسابيع وأشهر سابقة لذكرى النكبة. وهكذا، اجتمعت القدس ومكانتها السامية، واقتحامات المسجد الأقصى المتكررة، ومحاولة تهجير أهالي حي الشيخ جراح قسرًا، وحصار قطاع غزة المحكم، والاعتداء الوحشي على شعبنا الأعزل، وذكرى النكبة وإحيائها المؤلم؛ لتشكل مجتمعة محركًا قويًا للشارع الداعم للقضية في أوروبا.

وختامًا، نؤكد على الأهمية الإستراتيجية لاستثمار الفرص السانحة من زخم دعم القضية الفلسطينية العادلة، وذلك في المجالات السياسية، والقانونية، والشعبية، والإعلامية، والخيرية، وفي القطاعات الشبابية، والنقابية، والأكاديمية، والثقافية، وهذا يتطلب تضافر الجهود في الأوساط الفلسطينية، والعربية، والإسلامية، والأوروبية في جميع أنحاء القارة. ونرى أن أجواء جديدة وداعمة ومؤيدة للقضية الفلسطينية بدأت تتبلور بقوة في القارة الأوروبية، وأن الزمن القادم سيكون أقرب إلى تحقيق المطالب والحقوق الفلسطينية المشروعة، ويناوئ دولة الاحتلال الغاشم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة